أعد فريق موقع القانون من أجل فلسطين ملفًا يستعرض فيه ملخص القضية التي قدمتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية تحت بند ارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة وإليكم ما جاء فيه:

 

السياق

منذ 7 أكتوبر/تشرين أول 2023، تشن إسرائيل هجومًا متواصلًا على الفلسطينيين في قطاع غزة، مستهدفة بشكل عشوائي المدنيين والأعيان المحمية في انتهاك للقانون الدولي. لقد أصبح واضحًا من حجم الهجمات ضد غزة أن إسرائيل تحاول ارتكاب إبادة جماعية، حيث يقول العديد من الأكاديميين وقادة العالم بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة. في 29 ديسمبر/كانون أول 2023، بعد 83 يومًا من الهجوم المتواصل من القوات المسلحة الإسرائيلية، قدمت جنوب أفريقيا طلبًا لإقامة دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، فيما يتعلق بانتهاكات من جانب إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (“اتفاقية الإبادة الجماعية”) فيما يتعلق بالهجوم الإسرائيلي على الفلسطينيين في قطاع غزة.

وتجادل جنوب أفريقيا بأن “الأفعال والتقصيرات التي قامت بها إسرائيل والتي اشتكت منها جنوب أفريقيا هي ذات طابع إبادة جماعية لأنها تهدف إلى تدمير جزء كبير من المجموعة الوطنية والقومية والإثنية الفلسطينية، والتي هي الجزء الموجود في قطاع غزة من الشعب الفلسطيني (“الفلسطينيون في غزة”).

يتميز طلب جنوب أفريقيا باستخدامه لمصطلح erga omnes partes (“اتجاه الكافة/أو حقوق تتعلق بالجميع”)، والذي تم تحديثه بعد الإجراءات التي رفعتها غامبيا ضد ميانمار في عام 2019. وفي القانون الدولي، يتعلق هذا المبدأ بالالتزامات التي تدين بها الدولة للمجتمع الدولي ككل، وتمتد إلى أبعد من حدود الاتفاقات الثنائية أو الاتفاقيات المتعددة الأطراف. ويعني هذا المفهوم أن المبادئ والمعايير الأساسية في القانون الدولي، مثل حظر الإبادة الجماعية، هي التزامات تقع على عاتق جميع الدول تجاه المجتمع الدولي ككل. ويعتبر انتهاك هذه الالتزامات جرائم ضد النظام الدولي، مما يمنح أي دولة الحق في اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان منع تلك الانتهاكات.

يحتوي طلب جنوب أفريقيا على طلب اتخاذ التدابير المؤقتة، والتي تتطلب من المحكمة إصدار حكم أولي في القضية، من أجل “منع مزيد من الضرر الشديد وغير القابل للإصلاح لحقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية” ولضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية بعدم المشاركة في الإبادة الجماعية، ومنع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. والمهم هنا، أن التدابير المؤقتة تحتاج إلى حد أدنى من الإثبات كي تقوم المحكمة بالحكم بها، بحيث “لا يتعين على المحكمة أن تقرر أن جميع الأفعال موضع الشكوى يمكن أن تندرج ضمن أحكام اتفاقية الإبادة الجماعية”. ويعني انخفاض عبء الإثبات أن المحكمة لا يتعين عليها أن تثبت بشكل قاطع أن جميع الإجراءات المتضمنة في طلب جنوب أفريقيا تقع ضمن أحكام الاتفاقية، مما يسمح بعملية أكثر مرونة وسرعة عند طلب اتخاذ تدابير مؤقتة قبل الاستماع إلى القضية الكاملة المتعلقة بارتكاب إسرائيل للإبادة الجماعية.

 

النقاط الرئيسية في ملف جنوب أفريقيا

تتكون الوثيقة الشاملة التي قدمتها جنوب أفريقيا والمكونة من 84 صفحة بشكل أساسي من معلومات واقعية وأدلة تم جمعها من مصادر مختلفة. وتشمل هذه المعلومات تقارير المقررين الخاصين للأمم المتحدة، وإصدارات مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وتقارير الصحفيين الموجودين على الأرض في غزة، وتقارير المنظمات غير الحكومية ذات السمعة الموثوقة. يركز الطلب على عناصر الفعل الإجرامي (الأفعال المادية المتخذة ضمن ارتكاب الجريمة) وعلى عناصر القصد الجنائي (الركائز المعنوية للجريمة؛ أي النية لارتكاب الجريمة). ويشير هذا إلى أن الغرض من الطلب الذي قدمته جنوب أفريقيا هو الضغط من أجل اتخاذ تدابير مؤقتة لوقف الهجمات المستمرة على الفلسطينيين، بدلاً من مناقشة قضية الإبادة الجماعية الكاملة الآن، وهو الأمر الذي سيحدث في وقت لاحق.

وتذكر جنوب أفريقيا، أن إسرائيل، وقت تقدم الملف من قبل جنوب أفريقيا، كانت قد “قتلت ما يزيد عن 21,110 فلسطينيًا، من بينهم أكثر من 7,729 طفلًا – مع فقدان أكثر من 7,780 آخرين، ويُفترض أنهم ماتوا تحت الأنقاض”. ومضت الوثيقة لتشير إلى أن القصف الإسرائيلي قد أصاب أكثر من 55,243 فلسطينيًا آخرين وأن “إسرائيل دمرت أيضًا مناطق واسعة من غزة، بما في ذلك أحياء بأكملها، وألحقت أضرارًا أو دمرت ما يزيد عن 355,000 منزلًا فلسطينيًا”.

الأهم من ذلك، أن جنوب أفريقيا تضع الإبادة الجماعية الإسرائيلية في سياقها بالإشارة إلى “السياق الأوسع لسلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين من خلال نظام الفصل العنصري الذي دام 75 عامًا، واحتلالها الحربي للأراضي الفلسطينية الذي دام 56 عامًا، وحصارها المستمر لغزة منذ 16 عامًا”. والجدير بالذكر أن الملف ينص على أن “أعمال الإبادة الجماعية تشكل حتمًا جزءًا من سلسلة متصلة”، مع التركيز على أهمية فهم الأحداث الجارية من منظور الاحتلال الإسرائيلي والقهر والاستعمار، وليس من خلال أحداث 7 أكتوبر بشكل ضيق.

ينصب التركيز الأساسي للوثيقة على الهجوم الإسرائيلي على غزة، مع إشارة محدودة إلى الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية، بالإضافة إلى الهجمات التي شنتها حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر). وبينما يدين الملف تلك الهجمات، فإنه يؤكد أنه لا يمكن أن يكون هناك أي مبرر لانتهاك اتفاقية الإبادة الجماعية، كما تم توثيقه في الهجوم الإسرائيلي.

يفصّل ملف جنوب أفريقيا بشكل موسع في عدة فئات من أعمال الإبادة الجماعية ضمن تحليل الفعل الإجرامي، ويشمل ذلك قتل الفلسطينيين في غزة، مما سبب لهم أذى جسديًا وعقليًا خطيرًا، وفرض ظروف معيشية عليهم تهدف إلى تدميرهم جسديًا. وتُعزى هذه الأفعال إلى إسرائيل، التي لم تفشل في منع الإبادة الجماعية فحسب، بل ترتكب بنشاط الإبادة الجماعية. علاوة على ذلك، انتهكت إسرائيل وما زالت تنتهك الالتزامات الأساسية الأخرى بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، بما في ذلك “الإخفاق في منع أو المعاقبة على التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية من قبل كبار المسؤولين الإسرائيليين وغيرهم”. ويفصّل الملف في ذكر حقائق وإحصائيات تسلط الضوء على مدى الضرر الذي قامت به إسرائيل، على سبيل المثال، كدليل على أعمال الإبادة الجماعية:

وبحسب ما ورد، قُتل ما يزيد على 21,110 فلسطينيا منذ أن بدأت إسرائيل هجومها العسكري على غزة، وفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية، ويُعتقد أن 70% منهم على الأقل من النساء والأطفال. وتم الإبلاغ عن وجود ما يقدر بنحو 7,780 شخصًا إضافيًا، بما في ذلك ما لا يقل عن 4,700 امرأة وطفل، في عداد المفقودين، ويفترض أنهم ماتوا تحت أنقاض المباني المدمرة – أو يموتون ببطء – أو يتحللون في الشوارع حيث قتلوا.

يستخدم تحليل القصد الجنائي (النية) مجموعة متنوعة من التصريحات التي أدلى بها المسؤولون الإسرائيليون كدليل على نية الإبادة الجماعية. وتشير جنوب أفريقيا إلى التصريحات المتكررة التي أدلى بها ممثلو الدولة الإسرائيلية، بما في ذلك تلك التي تتضمن نوايا صريحة من كل من رئيس الوزراء والرئيس، فضلا عن التصريحات التي يمكن من خلالها استنتاج نية الإبادة الجماعية فيما يتعلق بسير العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة.

وتجدر الإشارة إلى الاهتمام الكبير الذي حظيت به تقارير المقررين الخاصين ومجموعات العمل التابعة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وبعثات تقصي الحقائق. وفي حين أن هذا لم يتم استخدامه على نطاق واسع في القضايا السابقة المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية، فمن المأمول أن تنظر المحكمة بشكل إيجابي إلى هذه الأدلة بسبب الجودة العالية والطبيعة الغنية بالمعلومات لتقارير الأمم المتحدة. وعلى الرغم من أن الطلب يؤكد اعتماده على البيانات والتقارير الواردة من رؤساء وهيئات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية وشهود العيان من غزة، بما في ذلك الصحفيين الفلسطينيين على الأرض، إلا أنه كان يميل في الغالب نحو المصادر الدولية مثل: الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني، بدلاً من الاعتماد على نطاق واسع على المصادر الفلسطينية.

ومن خلال قراءة الملف، يتضح أن نية جنوب أفريقيا كانت التركيز على الأمر بالإجراءات المؤقتة لوقف العنف المستمر. ومن المهم أن التركيز الأساسي في هذه المرحلة ينصب على إثبات أن الأفعال “يمكن أن تندرج ضمن أحكام الاتفاقية”. وهذا يعني أنه بدلاً من إثبات حالة الإبادة الجماعية برمتها، يجب على جنوب أفريقيا أن تثبت أن الوضع الحالي يمكن أن يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، مما يجعل في النهاية عتبة عبء الإثبات أكثر سهولة.

 

العناوين والعناوين الفرعية التي تضمنها الملف:

أولا: المقدمة

ثانيا: اختصاص المحكمة

ثالثا: الحقائق

1 المقدمة

  1. خلفية

 قطاع غزة

الضفة الغربية (بما في ذلك القدس الشرقية)

الهجمات التي وقعت في إسرائيل في 7 أكتوبر 2023

  1. أعمال الإبادة الجماعية المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني

قتل الفلسطينيين في غزة

التسبب في أضرار جسدية وعقلية جسيمة للفلسطينيين في غزة

الطرد الجماعي من المنازل وتهجير الفلسطينيين في غزة

حرمان الفلسطينيين من الحصول على الغذاء والماء الكافي

حرمان الفلسطينيين في غزة من الوصول إلى المأوى الملائم والملابس والنظافة والصرف الصحي

الحرمان من المساعدات الطبية الكافية للفلسطينيين في غزة

تدمير الحياة الفلسطينية في غزة

فرض إجراءات تهدف إلى منع الولادات الفلسطينية

  1. التعبير عن نية الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني من قبل مسؤولي الدولة الإسرائيلية وآخرين
  2. تحديد نية إسرائيل الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين

رابعا: ادعاءات جنوب أفريقيا

خامسًا: التدخل المطلوب

سادسا: طلب اتخاذ تدابير مؤقتة

  1. الظروف القاهرة تتطلب اتخاذ التدابير المؤقتة
  2. الاختصاص الظاهر للمحكمة
  3. الحقوق المطلوب حمايتها وطبيعتها المعقولة والارتباط بين هذه الحقوق والتدابير المطلوبة
  4. خطر الخلل الذي لا يمكن إصلاحه والاستعجال
  5. التدابير المؤقتة المطلوبة

سابعا: حفظ الحقوق

ثامنا: تعيين الوكلاء

 

أسئلة وأجوبة

ما هي محكمة العدل الدولية؟

محكمة العدل الدولية (ICJ) هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة. ويتمثل دورها في تسوية المنازعات القانونية المقدمة من دولة أو أكثر وفقًا للقانون الدولي وإبداء الرأي الاستشاري بشأن المسائل القانونية التي تحيلها إليها الجمعية العامة للأمم المتحدة (UNGA) أو مجلس الأمن (UNSC).

تتألف محكمة العدل الدولية من 15 قاضياً، كل منهم يحمل جنسية مختلفة، يتم انتخابهم لمدة تسع سنوات من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (المادة 3 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية). ويجب أن يتم توزيع القضاة جغرافيًا بشكل عادل واختيارهم بطريقة تكفل تمثيل النظم القانونية الرئيسية في العالم (المادة 9 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية). يقع مقر محكمة العدل الدولية في لاهاي، هولندا.

تم إنشاء محكمة العدل الدولية بموجب ميثاق الأمم المتحدة في عام 1945 في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بعد أن أصدرت القوى المتحالفة (الصين والاتحاد السوفييتي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) إعلانًا مشتركًا يعترف بضرورة “إنشاء منظمة دولية عامة، في أقرب وقت ممكن، تقوم على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع الدول المحبة للسلام، وتكون مفتوحة لعضوية جميع هذه الدول، كبيرها وصغيرها، لصون السلام والامن الدوليين”.

 

ما هي المحكمة الجنائية الدولية؟

في حين أن محكمة العدل الدولية هي محكمة مدنية لتسوية النزاعات بين الدول، فإن المحكمة الجنائية الدولية هي محكمة جنائية لمحاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجرائم العدوان والجرائم ضد الإنسانية.

تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية في عام 2002 من خلال نظام روما الأساسي لعام 1998، الذي أسس لأربع جرائم دولية أساسية – الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان – ومحكمة لمحاكمة هذه الجرائم. إسرائيل ليست طرفا في نظام روما الأساسي، ولكن تم قبول فلسطين كدولة طرف في نظام روما الأساسي في عام 2015. وعلى هذا النحو، يمكن أن تقع الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. في 3 مارس 2021، أعلن المدعي العام عن فتح التحقيق في الوضع في دولة فلسطين. ويمكنك العثور على مزيد من المعلومات حول هذا الموضوع هنا.

 

لماذا تقوم جنوب أفريقيا بتوجيه تهمة الإبادة الجماعية إلى إسرائيل؟

كما هو موضح في المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (“اتفاقية الإبادة الجماعية”)، تشتمل الإبادة الجماعية على عنصرين:

الركن العقلي (القصد الجنائي): “التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه”؛ و

الركن المادي (actus reus): ويتضمن الأفعال الخمسة التالية:

(أ) قتل أعضاء من الجماعة.

(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة.

(ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.

(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة.

(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.

وتزعم جنوب أفريقيا في الطلب المقدم من طرفها أن تصرفات إسرائيل في غزة ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، حيث تستهدف الشعب الفلسطيني – الجماعة الفلسطينية في قطاع غزة. وتشمل أعمال الإبادة الجماعية المزعومة قتل الفلسطينيين، والتسبب في أضرار جسدية وعقلية خطيرة، وفرض ظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم جسديًا. وتؤكد جنوب أفريقيا أن هذه الأفعال تنسب إلى إسرائيل، التي فشلت في منع الإبادة الجماعية وتنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية. ويشير الطلب إلى أعمال محددة قامت بها إسرائيل، مثل قتل الأطفال الفلسطينيين، والتهجير الجماعي، وتدمير المنازل، والحرمان من الضروريات الأساسية، والتدابير التي تعيق الولادات الفلسطينية. بالإضافة إلى ذلك، يسلط الضوء على استهداف جامعات غزة وتدمير المراكز الثقافية.

 

جنوب أفريقيا لم تتأثر بشكل مباشر من الإبادة، فكيف يمكن رفع هذه القضية؟

تؤكد جنوب أفريقيا موقفها القانوني في القضية الحالية استنادا إلى مبدأ erga omnes parts. يسمح هذا المبدأ لجميع الدول بالاحتجاج بقواعد المسؤولية الدولية التي يمكن الاستناد إليها بسبب أن دولة أخرى قامت بأفعال غير قانونية، إذا كانت تلك الأفعال تمثا انتهاكا “لالتزام يعد واجباً تجاه المجتمع الدولي ككل” (المادة 48 (6) من ﻣﺸﺎرﻳﻊ اﻟﻤﻮاد اﻟﻤﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﻤﺴﺆوﻟﻴﺔ اﻟﺪول ﻋﻦ اﻷﻓﻌﺎل ﻏﻴﺮ اﻟﻤﺸﺮوﻋﺔ دوﻟﻴﺎ).

وفي سياق اتفاقية الإبادة الجماعية، تشترك جميع الدول الأطراف في الاتفاقية في مصلحة جماعية في منع أعمال الإبادة الجماعية وضمان عدم إفلات المسؤولين عن هذه الأفعال من العقاب. والحجة الأساسية هي أن واجب منع الإبادة الجماعية والتصدي لها يتجاوز العلاقات الثنائية، ويشكل مسؤولية تجاه المجتمع الدولي برمته. وتؤكد هذه الاستراتيجية القانونية خطورة الجريمة وتؤكد الالتزام المشترك للدول بمحاسبة مرتكبيها ومنع وقوع مثل هذه الأفعال الشنيعة.

 

من هم الفرق القانونية التي تمثل جنوب أفريقيا وإسرائيل؟

جنوب أفريقيا: جون دوجارد، ماكس دو بليسيس، تمبيكا نجكوكايتوبي، عديلة هاشم

مساعدين: سارة بوديفين جونز، ليراتو زيكالالا، تشيديسو راموغالي

مساعدين خارجيين: بلين ني غرالاي، فوغان لوي

القاضي الخاص: ديكغانغ موسينيكي

إسرائيل: مالكولم شو

القاضي الخاص: أهارون باراك

* القضاة الخاصون: وفقًا للفقرتين 2 و3 من المادة 31 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، عندما لا يكون لدولة طرف في قضية معروضة على محكمة العدل الدولية قاضٍ من جنسيتها في هيئة المحكمة، يكون لها الحق في تعيين شخص ليكون بمثابة قاض خاص لتلك القضية المحددة. ونتيجة لذلك، قامت كل من جنوب أفريقيا وإسرائيل باختيار قضاة خاصين للانضمام لمحكمة العدل الدولية في هذه القضية.

 

لماذا تطالب جنوب أفريقيا بـ «تدابير مؤقتة»؟

التدابير المؤقتة هي سبل انتصاف مؤقتة تُمنح في ظروف خاصة لتجنب أي إجراء قد يؤدي إلى تفاقم النزاع أو اتساعه، في الوقت الذي تستمر فيه إجراءات المحكمة في المرحلة التالية. وهي تعادل تقريبًا الأوامر القضائية المؤقتة في المحاكم الوطنية (الإجراءات المستعجلة)، ولها الأولوية على جميع القضايا الأخرى المعروضة على محكمة العدل الدولية بسبب إلحاحها. وهنا، تطلب جنوب أفريقيا من المحكمة أن تأمر ب تدابير مؤقتة في ضوء أعمال الإبادة الجماعية المستمرة والمتصاعدة التي ترتكبها إسرائيل.

بموجب المادة 41 (1) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، “تكون للمحكمة صلاحية الإشارة، إذا رأت أن الظروف تتطلب ذلك، إلى أي تدابير مؤقتة ينبغي اتخاذها للحفاظ على حقوق أي من الطرفين.”

وتقول جنوب أفريقيا إن التدابير المؤقتة ضرورية في هذه القضية “للحماية من المزيد من الضرر الشديد وغير القابل للإصلاح لحقوق الشعب الفلسطيني بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، والتي لا يزال يتم انتهاكها مع استمرار الإفلات من العقاب”. في حين أن هذا لا يتعلق بشكل مباشر بـ «الحقوق الخاصة لأي من الطرفين»، فإن جنوب أفريقيا تستخدم مبدأ erga omnes partses، أو مبدأ «الالتزامات تجاه الجميع»، لتقديم هذا الطلب.

 

ما الفرق بين جريمة الإبادة الجماعية والجرائم الفظيعة الأخرى؟

تشمل الجرائم الفظيعة في القانون الدولي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، والتي تم تحديدها في اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية لعام 1977، واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948، ونظام روما الأساسي لعام 1998. جرائم الحرب هي انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني في أوقات الحرب ضد المدنيين أو المقاتلين، في حين أن الجرائم ضد الإنسانية هي «هجمات واسعة النطاق أو منهجية موجهة ضد أي مجموعة من السكان المدنيين». وتختلف جريمة الإبادة الجماعية عن هذه الجرائم الأخرى من حيث أنها تتطلب نية خاصة (dolus Specialis) – «نية تدمير… مجموعة».

وتقول جنوب أفريقيا في طلبها إن هذه النية الخاصة لتدمير الفلسطينيين في غزة قد تجلت في التصريحات التي أدلى بها المسؤولون والسياسيون والقادة العسكريون والصحفيون الإسرائيليون (وكما يظهر في قاعدة البيانات التي أنشأتها القانون من أجل فلسطين).

وتتعزز هذه النية الخاصة أيضًا من خلال أفعال إسرائيل وإغفالاتها تجاه أعمال الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. وعلى حد تعبير الطلب، فإن أفعال إسرائيل وإغفالاتها ترتكب “مع النية المحددة المطلوبة (dolus Specialis) لتدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من المجموعة الوطنية والقومية والإثنية الفلسطينية الأوسع”.

 

ما هو الفرق بين النية الجرمية (الركن المعنوي) والفعل الجرمي (الركن المادي)؟

يعد كلا النية الجرمية (الركن المعنوي) والفعل الجرمي (الركن المادي) عنصرين مطلوبين بموجب القانون لاعتبار أن هناك جريمة. وينطبق هذا على الجرائم التي تقع ضمن نطاق الولايات القضائية الوطنية، وأيضا بموجب القانون الدولي. ومع ذلك، يمكن أن يختلف الركن المادي والركن المعنوي للجرائم بين البلدان ويؤدي إلى اختلافات في القوانين المتشابهة للغاية، على سبيل المثال، لا يوجد مفهوم “درجات” للقتل في المملكة المتحدة كما هو موجود في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن القتل يعتبر جريمة في كلا البلدين.

الفعل الإجرامي هو الركن المادي الذي عادة ما يكون مطلوبًا لوجود جريمة، على سبيل المثال، في معظم الولايات القضائية الوطنية، القتل هو فعل قتل شخص ما بشكل غير قانوني.

الركن المعنوي هو العنصر العقلي أو النفسي الذي يشكل الجريمة. على سبيل المثال، في معظم الولايات القضائية، يعد القتل جريمة تتطلب النية، ولا يمكن عادةً ارتكابها عن طريق الخطأ – لذلك يجب أن تنوي ارتكاب جريمة قتل حتى يتم إدانتك بارتكاب جريمة القتل لقتل شخص بشكل غير قانوني.

يتم تحديد الركن المادي للإبادة الجماعية بموجب المادة 2 من اتفاقية الإبادة الجماعية على أنه الأفعال التي تهدف إلى تدمير مجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، كليًا أو جزئيًا، وذلك من خلال أساليب: قتل أفراد الجماعة؛ التسبب في ضرر جسدي أو عقلي خطير لأعضاء الجماعة؛ تعمد فرض ظروف معيشية على الجماعة بهدف تدميرها الجسدي كليًا أو جزئيًا؛ فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل الجماعة؛ أو نقل أطفال الجماعة قسراً إلى مجموعة أخرى.

يتم تعريف القصد الجنائي للإبادة الجماعية أيضًا في المادة 2 من اتفاقية الإبادة الجماعية، ويعني ببساطة أن الأفعال المدرجة في الركن المادي يجب أن تُرتكب بقصد تدمير جماعة موجودة، إما كليًا أو جزئيًا. مثل القتل، يجب أن تنوي ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية (أن تنوي القضاء على الشعب الفلسطيني) لتكون مذنبًا بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.

 

ما المطالب المحددة التي قدمتها جنوب أفريقيا في هذه القضية؟

وفي هذه القضية، قدمت جنوب أفريقيا المطالب المحددة التالية:

  • الوقف الفوري للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة وضدها.
  • التأكد من أن أي وحدات مسلحة عسكرية أو غير نظامية خاضعة لسيطرة إسرائيل، وكذلك المنظمات والأفراد الخاضعين لسيطرتها، لا تتخذ أي خطوات لتعزيز العمليات العسكرية المذكورة في الطلب الأول.
  • يجب على كل من جنوب أفريقيا وإسرائيل، وفقا لالتزاماتهما بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، اتخاذ جميع التدابير المعقولة في حدود سلطتهما لمنع الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.
  • إسرائيل مطالبة بالكف عن ارتكاب الأفعال المنصوص عليها في المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية، بما في ذلك قتل أعضاء الجماعة الفلسطينية، والتسبب في أذى جسدي أو عقلي خطير، وتعمد إلحاق أحوال معيشية تؤدي إلى التدمير الجسدي، وفرض تدابير لمنع الولادات داخل الجماعة.
  • يجب على إسرائيل أن توقف إجراءاتها، بما في ذلك إلغاء الأوامر والقيود والمحظورات ذات الصلة، لمنع الطرد والتهجير القسري والحرمان من الوصول إلى الغذاء والماء والمساعدات الإنسانية والإمدادات الطبية وتدمير حياة الفلسطينيين في غزة.
  • التأكد من أن الجيش الإسرائيلي أو الوحدات المسلحة غير النظامية أو الأفراد المتأثرين به لا يرتكبون الأفعال الموصوفة في المطلبين 4 و5، واتخاذ خطوات نحو العقاب في حالة حدوث مثل هذه الأفعال.
  • يجب على إسرائيل اتخاذ تدابير فعالة لمنع تدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتعلقة بمزاعم ارتكاب أفعال ضمن نطاق المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية، وبما يضمن السماح لبعثات تقصي الحقائق والجهات الدولية بالوصول إلى غزة لهذا الغرض.
  • تقديم تقرير إلى المحكمة بجميع الإجراءات المتخذة لتنفيذ الأمر خلال أسبوع من صدوره، وعلى فترات منتظمة حتى صدور القرار النهائي في القضية.
  • يجب على إسرائيل الامتناع عن أي عمل قد يؤدي إلى تفاقم النزاع المعروض على المحكمة أو إطالة أمده أو يجعل حله أكثر صعوبة.

 

ماذا سيحدث بعد ذلك؟

بعد بدء جلسة الاستماع، يتسم الجدول الزمني للقضية بإعطائه الأولوية والمعالجة السريعة لطلبات التدابير المؤقتة، والتي غالبًا ما تستغرق أسابيع فقط. وستشرف لجنة مخصصة على قرار المحكمة بشأن الإجراءات المؤقتة، ويظل القرار المؤقت قائمًا حتى صدور حكم نهائي في القضية.

ومع ذلك، هناك تعقيد محتمل. حيث من المقرر أن يتنحى بعض القضاة في فبراير/شباط القادم، حيث سينضم قضاة جدد إلى المحكمة. ولا يزال تأثير هذا التحول على الجدول الزمني للقضية غير مؤكد. ومن الضروري الإشارة إلى أن القرارات الصادرة عن محكمة العدل الدولية لها وزن كبير، كونها ملزمة ونهائية للدول الأطراف المعنية في القضية. وهذه القرارات لا يوجد استئناف عليها، وذلك على النحو المنصوص عليه في المادة 94 (1) من ميثاق الأمم المتحدة والمادة 60 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية.

 

ما المدة التي من المتوقع أن تستغرقها المحكمة قبل إصدار حكمها؟

نظرًا لطلب جنوب أفريقيا باتخاذ تدابير مؤقتة، سيتم الاستماع إلى المرافعات الشفهية الأولية خلال الفترة من 11 إلى 12 يناير/كانون ثاني 2024، وخاصة بشأن التدابير المؤقتة. وستبت المحكمة في هذه الإجراءات خلال الأيام التالية. وفي القضيتين الأخريين المنظورتين أمام محكمة العدل الدولية ضمن اتفاقيات الإبادة الجماعية، لدينا قضية غامبيا ضد ميانمار وأوكرانيا ضد روسيا، أمرت المحكمة باتخاذ التدابير المؤقتة في القضية الأولى بعد حوالي 40 يومًا وفي القضية الثانية بعد 8 أيام من جلسات الاستماع العامة لاتخاذ التدابير المؤقتة.

وبغض النظر عما هو القرار في التدابير المؤقتة، فإن القضية ستمضي قدما في محكمة العدل الدولية. وقد تضغط إسرائيل من أجل رفض مبدئي للقضية في هذه المرحلة، ولكن فقط على أساس الاختصاص القضائي. وعلى افتراض عدم تقديم إسرائيل أي مطالبة بشأن الاختصاص، أو أن المحكمة ترفض أي مطالبات من هذا النوع تقدمها إسرائيل، سيتم النظر في القضية من قبل محكمة العدل الدولية في الوقت المناسب، ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه يمكن أن تمر سنوات بين الادعاءات الأولية وجلسات الاستماع الرسمية بشأن موضوع القضية.

 

هل يتعين على إسرائيل الالتزام بقرار المحكمة؟

تنص المادة 94 (1) من الفصل الرابع عشر من ميثاق الأمم المتحدة على أن “يتعهد كل عضو في الأمم المتحدة بالامتثال لقرار محكمة العدل الدولية في أي قضية يكون طرفا فيها”. وتنص المادة 94 (2) على أنه في حالة عدم الامتثال، “يجوز لمجلس الأمن، إذا رأى ضرورة لذلك، أن يقدم توصيات أو يقرر التدابير التي يتعين اتخاذها لتنفيذ الحكم”.

علاوة على ذلك، يمكن للطرف الذي يشعر بوجود عدم امتثال لحكم محكمة العدل الدولية أن يعرض ذلك أيضًا على الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب المواد 10 و11 و14 و22 و35 من الميثاق، وأيضا فيما يتعلق بأحكام القرار 377 المعروفة عموما باسم “الاتحاد من أجل السلام”.

ومن واجب الأمين العام للأمم المتحدة أيضًا ضمان الامتثال للحكم عملاً بالمادتين 98 و99 من ميثاق الأمم المتحدة.

ومع ذلك، يوجد نقص ملحوظ في التنفيذ الفعال لأوامر محكمة العدل الدولية، وقد رأينا الدول تتجاهل محكمة العدل الدولية بشكل متزايد. ومن بين القضايا التوضيحية قضية لاجراند، التي استمعت إليها محكمة العدل الدولية في عام 2001. فقد انحازت المحكمة إلى طلب ألمانيا تعليق عقوبة الإعدام بحق المواطنين الألمان المحتجزين في الولايات المتحدة. ومن خلال اعتبار التدابير المؤقتة ملزمة قانونًا، حاولت محكمة العدل الدولية ممارسة سلطتها. ومع ذلك، اختارت الولايات المتحدة تجاهل أوامر المحكمة هذه وإعدام المواطنين الألمان، في تحدٍ لأوامر محكمة العدل الدولية. ولم يكن هناك أي تداعيات أو توبيخ حقيقي نتيجة لعدم امتثالها.

وفي الآونة الأخيرة، في مارس/آذار 2022، أمرت المحكمة روسيا بتعليق غزوها المستمر لأوكرانيا ردًا على طلب أوكرانيا اتخاذ تدابير مؤقتة في قضيتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية. ومن الواضح أن هذا لم يحدث، لكن عددًا من الدول فرضت عقوبات على روسيا بسبب الغزو غير القانوني. إذا اختارت إسرائيل عدم الامتثال لأي حكم من محكمة العدل الدولية، يمكننا أن نأمل أن تنفذ الدول العقوبات أو تستخدم أساليب أخرى كتوبيخ لعدم الامتثال، ولكن ليس هناك ضمان مطلق.

غير أنه من الأهمية بمكان التأكيد على أن أمر محكمة العدل الدولية ملزم قانونًا للأطراف، وتجاهله يضع عبئًا كبيرًا على الدولة غير الممتثلة له. بالإضافة إلى ذلك، تاريخيًا، واجهت الدول المتهمة بالإبادة الجماعية عزلة دولية، مما أثر على العلاقات الدبلوماسية والدعم، نظرًا لأن الإبادة الجماعية تعتبر “جريمة الجرائم”.

 

هل يستطيع مجلس الأمن استخدام حق النقض ضد قرار محكمة العدل الدولية؟

لا، لا يمكن لدولة ما أن تستخدم حق النقض ضد قرار محكمة العدل الدولية لأن هذه القرارات تنشئ التزامات ملزمة قانونًا. ومع ذلك، يتمتع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بناءً على طلب الدولة المتضررة، بسلطة اتخاذ تدابير خاصة لإنفاذ الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية (المادة 94 (2) من ميثاق الأمم المتحدة). ونظرًا لدعم الولايات المتحدة المستمر وغير المشروط على ما يبدو لإسرائيل، لا يمكننا أن نتوقع أي إجراء من مجلس الأمن الدولي.

لتحميل ملف ملخص القضية والأسئلة الشائعة رجاء النقر هنا

للوصول إلى الملف الكامل والمؤلف من 84 صفحة والذي قدمته جنوب أفريقيا، رجاء النقر هنا

___________________________________

قضية الإبادة الجماعية في غزة: ملخص شامل لمعركة جنوب أفريقيا القانونية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية ... ملخص القضية والأسئلة الشائعة، القانون من أجل فلسطين، 10 يناير 2024، https://2u.pw/cadbm0b

منذ أن رفعت دولة جنوب أفريقيا دعواها إلى محكمة العدل الدولية التي تتهم فيها الكيان الصهيوني بشن حرب إبادة جماعية في غزة، انهالت الكتابات والتعليقات التي تتناول هذا الأمر؛ إما بالتهوين من تلك الدعوى والآثار المتوقعة لها، أو بالتعامل معها وكأن تحرير غزة وفلسطين كلها من الاحتلال الصهيوني بات يتوقف على القرار الذي سيصدر من محكمة العدل الدولية في هذا الشأن!

والواقع أن لكل اتجاه من اتجاهي التهوين والتهويل مبرراته القوية؛ فالجانب الذي يستخف باللجوء إلى محكمة العدل الدولية يستند إلى أنه حتى لو أدانت المحكمة الصهاينة بشن حرب إبادة جماعية على فلسطين، فإنها ستحيل الأمر إلى مجلس الأمن الدولي ليتخذ قراره الرامي إلى وقف هذه الحرب على الفور، وهو القرار الذي من المستحيل صدوره في ظل وجود «حق الفيتو» كما هو معلوم!

أما الاتجاه الذي يهول من رفع الدعوى ضد الصهاينة، فإنه يتحدث عن المسألة وكأن المحكمة ستحرر فلسطين، باعتبار أن حكمها المنتظر سيفضح الصهاينة ويكشف «نازيتهم»، ولن يعوق هذا الأمر (حق الفيتو) باعتبار أن التأثير الأدبي للحكم سيكون قوياً إلى الحد الذي سيسحب البساط من تحت أقدام الدول الكبرى الداعمة للصهيونية ويؤثر عليها بالسلب أمام الرأي العام العالمي، كما أنه سيمثل غطاء يعضد إمكانية ملاحقة المجرمين الصهاينة ومحرضيهم وداعميهم جنائياً.

القانون الدولي يعاني أزمة معقدة تحدّ من آمال تحقيق العدالة على المستوى العالمي

ولسنا الآن في مقام مناقشة حجج كل من الاتجاهين، إذ نسعى عبر هذا المقال إلى فقه الواقع كما هو حتى نستطيع التعامل معه وفق معطياته الفعلية، دون التحليق في الخيال أو التشبث بالأوهام، وكذلك دون أن نضيع فرصاً قد تكون سانحة يمكن أن نستثمرها في نصرة قضيتنا الأهم، وهي القضية الفلسطينية.

حقائق مهمة

فهناك عدد من الحقائق المهمة التي ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار عند تناول هذه المسألة لوضعها في إطارها المطابق للواقع، حتى يكون وعينا لها مناسباً، وتعاملنا معها فعالاً، ومنها:

الحقيقة الأولى تتمثل في أن القانون الدولي المعاصر (وكذلك النظام الدولي) يعاني من أزمة معقدة ومركبة، تهدد حتى وصفه بالقانون، أو على الأقل تحدّ من الآمال المعولة عليه لتحقيق العدالة على المستوى العالمي؛ إذ ينقص هذا القانون عادة عنصر الإلزام الذي يتوجب أن يتوافر في قاعدة ما، لاعتبارها قاعدة قانونية مجردة، كما ينقصه عنصر الجزاء، الذي يتطلب وجود سلطة أعلى من سلطة الدول لتوقعه.

وأستند في هذا إلى ما سبق أن قرره الفيلسوف والفقيه القانوني الإنجليزي جون أستون (1790 – 1859م) من اشتراطه في القانون وجود سلطة سيادية تصدر الأوامر وتملك القدرة على إنزال العقاب على من يخالفها، ومن ثم إلى نفيه وجود تلك السلطة السيادية في «القانون الدولي»، وذهابه إلى أن قواعده مجرد مجموعة قواعد أخلاقية.

وعلى الرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهت إلى نظرية أوستن تلك -وما زالت توجه إليها- بزعم أن هناك بالفعل سلطات تعلو فوق سلطة الدول، مثل الأمم المتحدة وأجهزتها الستة، وعلى رأسها مجلس الأمن وجهازها القضائي المتمثل في محكمة العدل الدولية، فإن الواقع ينطق بغير ذلك؛ حيث إن الأمم المتحدة تعتمد في إنفاذ أهم قراراتها، وهي القرارات المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين، على توافر الإرادة السياسية للدول الخمس الأقوى في العالم مجتمعة، وهي أمريكا وروسيا وبريطانيا وفرنسا والصين، وعلى توازن القوى فيما بينها، فإذا اعترضت دولة منها على الأقل فإن من شأن هذا الاعتراض أن يعرقل إصدار القرار المعترض عليه، ولو كان هذا القرار مستنداً إلى حكم لمحكمة العدل الدولية!

دعوى دولة جنوب أفريقيا خطوة بالغة الأهمية من شأنها فضح الصهاينة وداعميهم

وحتى إذا اعتبرنا إرادات هذه الدول الخمس تعلو إرادات ما دونها من دول العالم، ومن ثم تكمل النقص الذي يعتري القانون الدولي، فإن هذه «الدول السيادية» ستماثل بذلك -في حقيقة الأمر- «الجهات السيادية» المهيمنة في الدولة السلطوية (الدكتاتورية)، فهي المشرع والقاضي والمنفذ في الوقت نفسه، ومن ثم لا يسوغ أبداً اعتبارها «دولة قانون»، بل «دولة قانون الغاب»، وذلك هو وضع القانون والتنظيم الدوليين الآن للأسف الشديد!

وآية ذلك، أن الأصل في المنظور الغربي أن العلاقات الدولية -والفردية والمجتمعية- هو الصراع، وأن البقاء ليس للأصلح بل للأقوى، وهو ما انعكس على طبيعة منتوجات الفكر الغربي، ومن ضمنها القانون الدولي بصفة عامة ومواثيق المنظمات الدولية بصفة خاصة، عدا بعض الثغرات التي قد ينفذ منها المستضعفون عسى أن يتخللوا النظام الدولي في محاولة لتقويم عوجه، وتوجيهه نحو نصرة المستضعفين.

منتوجات السياسة الغربية

الحقيقة الثانية: أن الكيان الصهيوني نفسه هو أحد منتوجات الفكر والسياسة الغربيين كذلك، حيث بدأ التفكير في إنشاء هذا الكيان منذ صدور الوعد البريطاني بإنشائه («وعد بلفور» في عام 1917م)، وصولاً لإعلانه فعلاً في عام 1948م برعاية غربية (بريطانية أمريكية فرنسية روسية..)، بعدما قررت أمريكا أن تحل محل البريطانيين والفرنسيين في احتلالهما العسكري المباشر لدول العالم الإسلامي وغيرها من الدول النامية، باحتلال يحمل صيغة جديدة تقوم على التحكم عن بُعد، مع إبقاء قوة عسكرية على أرض فلسطين تستخدمها أمريكا -وحلفاؤها- للترغيب والترهيب والتفتيت، لنكتشف بذلك أن المتحكم في سن قواعد القانون الدولي المعاصر وفي تطبيقه هو نفسه المؤسس للكيان الصهيوني والداعم له!

الحقيقة الثالثة: أن الدولة التي أدركت هذا الواقع -المظلم- بالفعل هي دولة جنوب أفريقيا (الحرة المستقلة)، استندت إلى «اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها»، ورفعت دعوى أمام محكمة العدل الدولية لوقف حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني ضد غزة، مع طلب التعجيل بإصدار «تدابير مؤقتة»، وفق ما تقرره المادة (41) من النظام الأساسي للمحكمة، للحفاظ على الحقوق الخاصة بالفلسطينيين، ووقف تلك الحرب، وهي خطوة بالغة الأهمية، من شأنها فضح الصهاينة وداعميهم من الدول الغربية، لا سيما إذا قررت المحكمة فرض تدابير مؤقتة تمنع استمرار تلك الحرب إلى حين البت النهائي في القضية.

الحقيقة الرابعة: أن هذه الخطوة الشجاعة من دولة جنوب أفريقيا وإن كانت تمثل دعماً قانونياً وقضائياً وسياسياً وأدبياً وإعلامياً للفلسطينيين، إلا أنها لن تحرر فلسطين، بل سيحررها أبناؤها، الذين شرعوا بالفعل في حربهم لتحرير وطنهم في السابع من أكتوبر الماضي، إدراكاً منهم بعد تراكم خبراتهم مع الاحتلال، أن هذا هو الطريق الوحيد لتحقيق الاستقلال.

ومن حسن الحظ أن تدابير محكمة العدل الدولية وقرارها المنتظر سيؤكد شرعية ذلك الخيار المقاوم والمشروع وفق قواعد القانون الدولي نفسه، حتى بحالته المهترئة تلك، وحتى لو تم استخدام «الفيتو» ضد القرار.

___________________ 

د. حازم على ماهر، التعويل على محكمة العدل الدولية.. بين التهوين والتهويل!، مجلة المجتمع، 18 يناير 2024، https://2u.pw/MejZcje

حوار أجراه موقع الجزيرة نت مع د. وائل حلاق

قال المفكر العربي البارز البروفيسور وائل حلاق إن إسرائيل والولايات المتحدة والأوروبيين وغيرهم لا يستطيعون أن يلجموا عنفهم ضد الآخرين كما رأينا في حرب فيتنام وأفغانستان والعراق وغزة، وليس في منطق عدوانيتهم سوى الاستغلال المادي والهيمنة والميل إلى التدمير. وأضاف أن الأحداث التي بدأت بطوفان الأقصى توضح تجليات الأزمة الأخلاقية في الحداثة المتأخرة، وأن "الأحداث التي شهدناها في القرون الثلاثة الأخيرة تمثل الدليل الكامل على أن الحداثة الغربية منافقة وعنصرية حتى النخاع".

وأوضح أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأميركية، أن تحليل أفعال طرفي الصراع في قطاع غزة، إسرائيل وأميركا والغرب من جهة، والفلسطينيين وحركة حماس من جهة أخرى، ليس بالأمر الشديد الصعوبة، بل الأصعب هو إدراك بنية الصراع المعرفية، "فحين نفهم هذه البنية، يمكن أن نحلل تداعياتها".

وذكر المفكر الفلسطيني، في حوار خاص له مع موقع الجزيرة نت، أن تعاطف الغربيين مع الفلسطينيين نابع من أمرين، الأول هو أن الفلسطينيين ضحية للمخططات الاستعمارية منذ عام 1917 مع وعد بلفور، والآن مع اعتداءات إسرائيل الشرسة على المدنيين الأبرياء الفلسطينيين، والأمر الثاني هو أن حركة حماس أقرب إلى كونها ضحية من كونها جانية، رغم "أكاذيب إسرائيل اللامتناهية، والتافهة في الوقت نفسه"، كما أن "حماس كانت، كما يحب الغرب نفسه أن يقول، أكثر "تحضرًا" من الهجمات البربرية التي قامت بها إسرائيل".

وبيّن صاحب كتاب "إصلاح الحداثة" أن الصراع بين حماس وإسرائيل يعود في عمقه إلى اختلاف نظرة الطرفين للطبيعة والحياة، إذ إن الفلسطينيين وحماس ينطلقون من "مسؤولية أخلاقية تقتضي استخدام العالم وإدارته باعتباره ملكوت الله، لا باعتباره ملكا للبشر، فسيستخدمونه ويديرونه بشكل مقيد وبمسؤولية (..) حتى عندما يهاجمك بعض البشر ويريدون قتلك، فستستمر في النظر إليهم على أنهم لا يساوونك في قيمتهم الجوهرية فحسب، بل تكون أنت مسؤولا عنهم وعن إصلاحهم أخلاقيًا".

في المقابل -يقول حلاق- تتصرف إسرائيل والغرب وفق منطق أنه ليس وراء الكون أو الطبيعة مسبب، فتكون النتيجة المنطقية أنه "لا قيمة لنا نحن البشر في أنفسنا إلا إذا أعطانا إياها أحدهم. وبما أنه لا يمكن أن يكون هذا الشخص إلها، فإن إنسانًا يعطي هذه القيمة إنسانًا آخر، استنادا إلى الذي يكون القرار بيده. وقوة القرار دائما ما تكون قوة بطشية، وهي قوة السيف: فقرار الضعيف في يد القوي، أي أن الأقوى بطشًا هو صاحب القرار".

 

فإلى نص الحوار:

كيف يمكن قراءة عملية طوفان الأقصى في مسار الفكر الإسلامي والإنساني المعاصر؟

دعني أختصر المسألة وأعطيك جوابا مباشرًا: تمثل الأحداث التي بدأت بطوفان الأقصى وبلغت ذروتها مع الهجمات الإجرامية لإسرائيل على غزة، ثم مع جلسات استماع محكمة العدل الدولية في الحادي عشر من شهر يناير/كانون الثاني الجاري، تمثل أوضح تجليات الأزمة الأخلاقية في الحداثة المتأخرة. إذ تكون أعمال الجهات المختلفة تراكم التصادم البنائي بين القوى اللاأخلاقية والمعادية للأخلاق من جهة، وتلك التي تبقى ملتزمة بمبادئ السلوك الأخلاقي. فينبغي أن نسأل: ما هو هذا التصادم، وبين أي قوى يقع؟

هنا، يجب أن نفهم أن القوتين المتنافستين (الممثلتين بحماس والفلسطينيين والداعمين لهم من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة، وداعميهم الأوروبيين العنصريين من جهة أخرى) ليستا مجرد قوتين عسكريتين أو سياسيتين. وأود أن أوضح أن هذين الجانبين من النزاع لا يقعان ضمن دائرة اهتماماتي مباشرة، ذلك أن تحليلهما وفهمهما ليس بالأمر الشديد الصعوبة. ولكن ما يفوق هذا الأمر صعوبة هو إدراك بنية الصراع المعرفية. فحين نفهم هذه البنية، يمكن أن نحلل تداعياتها الأخلاقية.

إن الفرق بين القوتين المتنافستين (وسأفسر لاحقا ما يجعلهما متنافستين) لا يقتصر على توجهاتهما في الساحتين السياسية والعسكرية. وأعتقد أن السبب الذي صير الكثير من الغربيين داعمين متعاطفين مع الفلسطينيين هو أن الجانب الفلسطيني يمثل أمرين: أولًا، ليس من الصعب أن نرى كيف وقع هذا الجانب ضحية المخططات الاستعمارية منذ عام 1917، مع وعد بلفور، والآن، طبعا، مع اعتداءات إسرائيل الشرسة على المدنيين الأبرياء الفلسطينيين.

وثانيًا، تظهر لهم حركة حماس، على الرغم من أكاذيب إسرائيل اللامتناهية، والتافهة في الوقت نفسه، على أنها أقرب إلى كونها ضحية من كونها جانية. ذلك أن حماس كانت، كما يحب الغرب نفسه أن يقول، أكثر "تحضرًا" من الهجمات البربرية التي قامت بها إسرائيل. ولا شك أن هذين الاعتبارين مهمان، غير أنهما ليسا الأشد أهمية عند النظر إلى المسألة من وجهة نظر أخلاقية.

أخلاقيًا، يكمن الاختلاف الأهم في الأصل المعرفي لفلسفة مفهومي العالم التي تسطر سلوك القوتين المتنافستين. وترتكز فلسفة مفهوم العالم الإسرائيلية الغربية (على الرغم من الادعاء بأن إسرائيل دولة يهودية، وهو ادعاء يمثل دعاية أيديولوجية أكثر بكثير من كونه تمثيلًا صحيحًا للديانة اليهودية) ترتكز على مفهوم من الدنيوية واللحظة الآنية، "هنا والآن"، وهو مفهوم قد قطع صلاته بكوزمولوجيا أخلاقية ترى العالم على أنه خلْق إله محب ورحيم وعادل. وإذا كانت هذه كوزمولوجيا، فالكوزمولوجيا الإسرائيلية الغربية غير مكتملة، وقزمية، وغير ناضجة، وطفولية، وبدائية بالفعل. إنها كوزمولوجيا مفرطة البساطة فكريًا وروحيًا.

وينكر المفهوم الإسرائيلي الغربي خلق العالم من قبل إله يكون المالك الفعلي له، إله يكون فعل خلق العالم قد ولد له صفة أخرى، خاصية جوهرية أخرى، وهي أن الإله يملك العالم بكل ما للكلمة من معنى. فهو يملك العالم بشكل محدد من أشكال الملكية الفردية التي لا يمكن لنا نحن البشر، في الواقع، أن نفهمها. وإذا كان الإله يملك العالم، فلا يملك -في الحقيقة- أحدنا الآخر، فنحن جميعا سواسية عنده، وعلى المسافة نفسها من حيث علاقتنا به.

أما المفهوم الإسرائيلي الغربي، فتأتي الدولة وشعبها باعتبارهما أعلى مجموعة من القيم فيه، بينما تكمن العلمانية في الخلفية. هذه آلهة الغرب، وإسرائيل غربية -باستثناء جغرافيتها- بكل معنى الكلمة. وعلى القارئ أن يتنبه هنا إلى أن "الغرب" في مصطلحي ليس مكانا جغرافيا ولا سيمائية عرقية، وإنما هو نظام معرفي ومنظومة ثقافية.

 

لكن ما تداعيات ما وصفته الآن؟ كيف تؤثر هذه الأشياء في البعد الأخلاقي للصراع الحالي؟

دعني أختصر هذا: يدور هذا الصراع بشكل أساسي حول كيفية رؤية هاتين القوتين للطبيعة! ذلك أننا نميل إلى التسليم -إذا ما فكرنا في هذه المسألة أصلًا– إلى أن جميع الناس ينظرون إلى الطبيعة من المنظار نفسه، غير أن هذا غير صحيح إطلاقا، إذ يمكن التفكير في الطبيعة والنظر إليها بطرق مختلفة. فإن الذين ينظرون إلى الطبيعة على أنها خلق كائن ذكي يرون أنفسهم جزءً من هذا الخلق العظيم، جزءً أساسيًا ومهما منه. وإذا كان ينظر إلى الله، كما تنص تعاليم الإسلام على سبيل المثال، على أنه عهد إلى البشر مسؤولية أخلاقية تقتضي استخدام العالم وإدارته باعتباره ملكوت الله، لا باعتباره ملكا للبشر، فسيستخدمونه ويديرونه بشكل مقيد وبمسؤولية.

أما الأهم من هذا، فهو أنهم سينظرون إلى الطبيعة على أنها جزء منهم، بقدر ما هم جزء منها، فتصبح الطبيعة كلها مقدسة. وهكذا، حتى عندما يهاجمك بعض البشر ويريدون قتلك، فستستمر في النظر إليهم على أنهم خلق الله، أي أنهم لا يساوونك في قيمتهم الجوهرية فحسب، بل تكون أنت مسؤولًا عنهم وعن إصلاحهم أخلاقيًا. قد يكون هؤلاء جهلة، وأغبياء، ومفلسين أخلاقيًا، ومجرمين، وعنيفين بشكل تام، غير أنهم يظلون بشرًا مثلك، فقد جاء كلاكما من المصدر نفسه، والحدث الكوزمولوجي نفسه، وخلقتما بيدي الله الرحيم نفسه.

أما الذين يؤمنون بالدولة والأمة باعتبارهما الوثنين الجديدين والإلهين الأعظمين، وتحميهما قوة "العلم" المطلقة والقوتان المالية والعسكرية، فالمعيار النهائي لوجودهم هو الأمة، وهي القيمة الأهم في الدولة. وبما أن القومية دائما تتطلب إعلاء قومية على القوميات الأخر فإن كل قوم يتفوقون في الغالب على الأقوام الآخرين نظريًا وعمليًا أيضًا، وأقصد بهذا التفوق التفوق الوجودي.

ففي القومية افتراض دائم بأنني -باعتباري كيانًا قوميًا– أشعر بأن وجودي مهدد، وبالتالي لوجودي الأولوية على وجودك؛ لأن أصولك ليست أصولي نفسها. ذلك أن القوميات لا ترجع إلى الأصل نفسه، فلكل قوم أصلهم الخاص بهم، وهذا بالضبط سبب اعتبار القوميات مختلفة بعضها عن بعض، ولو كانت تتحدث اللغة نفسها، وتملك عادات وتوجهات ثقافية شديدة التشابه (مثل الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، إلخ).

فعلى خلاف المفهوم القرآني الذي يرى أن الأمم كلها خلق الله، يقول المفهوم الحديث العلماني القومي الدوْلي إنه لا قيمة للطبيعة في نفسها لأنها ببساطة موجودة، حدث أنها وجدت، من دون هدف ولا خطة، ذلك أن العالم ليس سوى حادث كوزمولوجي ليس وراءه مسبب، فالطبيعة، وفقا لهذا الموقف الحداثي، هي كما نراها نحن البشر، غير أن في هذا الكلام نوعا من التناقض.

فإذا كنا نحن البشر جزءا من طبيعة هي حادث كوزمولوجي ليس وراءه مسبب، ولا قيمة لها في نفسها، تكون النتيجة المنطقية، بناء على هذا المنطق، كالآتي: لا قيمة لنا نحن البشر في أنفسنا إلا إذا أعطانا إياها أحدهم. وبما أنه لا يمكن أن يكون هذا الشخص إلهًا، فإن إنسانا يعطي هذه القيمة إنسانا آخر، استنادًا إلى الذي يكون القرار بيده.

وقوة القرار دائما ما تكون قوة بطشية، وهي قوة السيف: فقرار الضعيف في يد القوي، أي أن الأقوى بطشا هو صاحب القرار. وهذا سبب انحدار زمننا إلى ما وصفه الكثيرون بـ"البربرية". وهو السبب نفسه الذي يدفع بنية العلوم السياسية كاملة إلى قبول المبدأ الأساسي القائل بأن القوة معيار السياسة ومطلبها النهائي.

أريد أن البيان الذي سمعناه مرارًا بعد السابع من أكتوبر، والذي يقول إن إسرائيل مجردة من الدافع الأخلاقي، لم يأت بسبب جنون إسرائيل جنون الكلب المصاب بداء السعار فحسب، بل لوجود سببية معرفية وكوزمولوجية مقنعة جدا.

ولقد قلت فيما سبق إن هناك سببًا وجيهًا يجعل هاتين القوتين متنافستين؛ ذلك أني أعتقد أنهما لا يمكن أن توجدا معًا؛ إذ لا بد أن تهيمن إحداهما وأن يتخلى عن الأخرى. وأعتقد أن هذا هو الاختلاف بين استمرار بقائنا على هذه الأرض وهلاكنا التام، وأن الدولة القومية ومفهومها السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحديث سيقوداننا إلى الهاوية. وهذا مما لا شك فيه عندي. فإذا لم نتغلب على هذه القوة، ونستبدل تقديرا فعليا للحياة الأخلاقية بها، فسنصبح في حكم الهلْكى. هذا مخرجنا الوحيد من الكارثة العامة، وما غزة إلا أخطر تصوير لها.

 

لكن كيف يؤثر الموقف من الطبيعة في المواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟

هذا سؤال جيد. في مفهوم العالم الذي خلق على يد قوة عظمى، هناك دوما مجموعة من المبادئ العليا التي توجه تفسير المبادئ الدنيا التي توجه هي كذلك تفسير الأسس التي تحدد كيف يتصرف المرء، وماذا يقول، وكيف يعيش. وفي هذا النظام الفكري، يصبح الناس ملزمين بهذه المبادئ العليا التي تقيدهم وتلجمهم وتمنعهم من التمادي في الظلم والفساد.

أما في نظام الدولة القومية التي لا تعترف بوجود إله، المدعومة بتصورات العلم الحديث غير المكتملة، التي هي دائما في حالة سيلان، فلا مبادئ أخلاقية مقيدة كهذه، باستثناء تلك التي تلفقها الدولة والعلم متى وكيف يشاءان. ففعل المرء ومقاله يعتمدان على مشيئته وإرادته اعتمادًا كاملًا، إذ يعتمدان على المصالح السياسية المباشرة التي تقرر بشكل تعسفي قيمة كل شيء في العالم، بما في ذلك ما يبدو جيدًا في اللحظة بعينها.

وقد عرفت أخلاقيات هذا النظام منذ وقت طويل بكونها أخلاقيات ذرائعية أداتية وانتهازية، بل استغلالية ومدمرة. ولهذا السبب لا تستطيع إسرائيل والولايات المتحدة والأوروبيون وغيرهم، أن يلجموا عنفهم ضد الآخرين، كما رأينا في حرب فيتنام وأفغانستان والعراق وغزة. ولهذا السبب، ليس في منطق عدوانيتهم سوى الاستغلال المادي، والهيمنة، والميل إلى التدمير.

أما العيش بشكل أخلاقي، فيعني العيش وفقا لمبادئ محمودة وأخلاقية، وقابلة للتطبيق في جميع الأوقات. إن العيش الأخلاقي يعني قبول الرأي القائل بأن عدوك إنسان مثلك، يستحق أن يعامل على أنه إنسان، مهما اختلفت معه، أو وجدته يستحق الهجوم العسكري. أما العيش من دون مبادئ فيعني أن يعيش المرء حياة خالية من الأخلاق. والمبادئ قوانين الروح والجسم، وقوانين الفرد والمجموعة. المبادئ الحقيقية هي تلك التي يجب أن تفترض، في منطلقها، أن كل حياة تستحق أن تعامل على أنها نتاج مصدر أعلى وأعظم، وأنها خلقت لغاية ذكية.

 

لاحظنا تناميا للتعاطف الشعبي الغربي مع قطاع غزة وإقبالا على فهم تضحيات أهل غزة، هل هذه بداية تحوّل في النموذج الأخلاقي لدى شعوب العالم؟

هذا صحيح، ظهر تعاطف كبير من قبل الشعوب الغربية اتجاه الفلسطينيين ومعاناتهم، حتى من قبل الكثير من اليهود والمجموعات اليهودية. وهذا أمر استثنائي للغاية لأن واقع أن هذا العدد الكبير من اليهود أظهروا التعاطف والدعم هو في ذاته أمر مهم لأسباب عدة، ولا سيما أنهم، في رأيي، سيكونون في المستقبل الحليف الأكبر للفلسطينيين في إيجاد حل عادل للمشكلة الفلسطينية. وتشير الإحصائيات والاستطلاعات كلها إلى أن دعم الأمريكيين اليهود لفلسطين يزداد يوما بعد يوم.

لكن دعونا لا نخدع أنفسنا ظانين أن تعاطف الغربيين هذا يدل على تحول عميق أو بنيوي، على الرغم من صدق هذا التعاطف الذي لا يشك فيه. فقد رأينا أن كثيرًا من الناس بدأوا يشككون في الجانب الإسرائيلي، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل على المستوى التحليلي أيضًا -إذا جاز التعبير- فقد بدؤوا الربط بين تدمير غزة وحركة حماس من جهة، والآثار السيئة -بشكل عام- للمؤسسات الرأسمالية الجشعة التي تحكم عالمنا اليوم، من جهة أخرى.

فقد ربط الكثيرون بين التصرفات الإسرائيلية في غزة وتدمير البيئة الذي ترتكبه إسرائيل والدول الصناعية كلها. غير أن فهم هؤلاء المؤيدين ليس عميقًا بما فيه الكفاية، فلا يصل إلى جذور المشكلة، وهي جذور مرتبطة بنيويا بالأصول الكوزمولوجية ومفاهيم مصادر الحياة. فلا يدرك هؤلاء حتى الآن تداعيات وعواقب الرأي القائل بأن العالم مجرد حادث كوزمولوجي. ولن يستطيعوا عبور الجسر الموصل إلى الإدراك الكامل حتى يفهموا هذه التداعيات.

 

ما التأثيرات القريبة والبعيدة المدى لطوفان الأقصى في المشاريع الفكرية العربية بشكل خاص؟ هل يمكن بناء نموذج فكري جديد على أنقاض ما يحدث في قطاع غزة؟

لا شك في أن أحداث إسرائيل وغزة في عامي 2023 و2024 بالغة الأهمية، وقد سببت صدمة من أشد أنواع الصدمات، ولا أجد حدثا يوازيها في التاريخ الفلسطيني باستثناء نكبة 1948. غير أن التفكير في كيفية تأثير هذه الكارثة الإنسانية في المشهد الفكري سابق لأوانه. لكن أستطيع أن أخبرك بما يحتاج الفلسطينيون والعرب والمسلمون إلى القيام به.

يجب أن نعيد النظر في أسس معرفتنا الخاصة، وأسس السياسات والقومية الحديثة، وأسس الدولة والاقتصاد الحديثين. فكلا النموذجين الاقتصادي والسياسي الحديثين غير صحيين في الحقيقة، بل هما مجموعة من الأمراض، والقومية مرضية بقدر أي من هذين.

يقول الكثيرون في وسائل التواصل الاجتماعي إن مقاومة أهل غزة ستصبح حالة تدرس في كتب الحروب المدنية، وما شابه هذا. غير أن تركيزنا لا ينبغي أن يصب في هذا المصب، بل ينبغي أن ندرس طوفان الأقصى ونتائجه من منظور معرفي وأخلاقي. يجب أن ينظر إلى كفاح الفلسطينيين من أجل العدالة على أنه تعزيز شامل للعدالة التامة، أي للبشر وغيرهم.

لقد جلبت الحداثة الغربية للعالم أسلوبًا جديدًا للحياة هدف في الأصل إلى تحسين الظروف الإنسانية، غير أننا نعلم جيدا الآن، بعد ثلاثة قرون من التجارب، أنه هذا الأسلوب أصابنا بالفشل الذريع. بل كان هذا المشروع مصدر الدمار ووسيلته، دمار البيئة والنسيج المجتمعي والعائلة، وفي الآونة الأخيرة، دمار الروح، وتفكك الفرد نفسيا، وتفريغ الذات.

وفي الأحداث التي شهدناها في القرون الثلاثة الأخيرة الدليل الكامل على أن الحداثة الغربية منافقة وعنصرية حتى النخاع. وترتبط هذه الخصائص كلها ارتباطًا وثيقًا، بل هي في الواقع نتيجة اقتصادنا وسياساتنا، وهي نتيجة أساليب عنف الدولة أيضًا، إلى جانب الكثير من العوامل الأخرى.

ينبغي أن نبدأ التفكير في هذه المسائل كلها معًا باعتبار أنها مترابطة بنيويًا، ففلسطين جوهريًا مشكلة معرفة، وعلى هذا النحو، هي مشكلة أخلاقية، وليست مشكلة سياسية وعسكرية فقط. ولن نستطيع فهم المشكلة السياسية إطلاقًا، إلا إذا فهمناها في هذا الإطار. ففي التجربة الفلسطينية للحياة والموت تكمن خلاصة المشكلة العالمية للأخلاق والمعرفة.

_____________________

المصدر: الجزيرة نت، 17 يناير 2024، https://2u.pw/VDdoo0n

في مقالاتي السابقة حول الحرب الإسرائيلية الدائرة على غزة، ناقشتُ عدة مسائل كان من بينها بعض المفاهيم الأخلاقية والقانونية والعسكرية التي أثيرت أثناء الحرب، في التصريحات والتعليقات الرسمية وغيرها، كمفاهيم: الدروع البشرية، والأضرار الجانبية، وحق الدفاع عن النفس، والمقاومة والإرهاب، والجهاد.

وقد أوضحت -فيما سبق- كيف أن الهدف السياسي والعسكري يتقدم -في عالم اليوم – على الأخلاق والقانون معًا؛ لأن التسويغات الأخلاقية بدت تُكَأة السياسيين والعسكريين، وتجري وَفق حسابات تفرضها المصالح السياسية، والخوف من المساءلة القانونية.

فعلى سبيل المثال، سوّغ هدف القضاء على حماس شنّ الحرب والاستمرار فيها حتى الآن لأكثر من ثلاثة أشهر؛ بالرغم من الدمار الهائل الذي أحدثته في غزة، والكُلفة البشرية غير المسبوقة التي تخالف كل الشرائع القانونية والخُلقية، الأمر الذي جعل المقولات الأممية – حول "حقوق الإنسان" و"حقوق الطفل" و"حقوق المرأة" – في محنة غير مسبوقة.

في هذا المقال أود أن أقف عند إشكالية أخرى تُكمل نقاشاتي السابقة، وهي ثنائية المدني والعسكري في الحرب، ولاسيما أنها مفهوم مركزيّ في نقاشاتي السابقة حول مفهومَي الدروع البشرية والأضرار الجانبية، وهي -في الوقت نفسه- مثال آخر يُضاف إلى أمثلة سابقة؛ (كالجهاد في غزة مثلًا، وقد عالجته في مقالين سابقين)، وتندرج -جميعًا- تحت سؤال كبير يتصل بإشكالات استعادة الموروث الفقهي في السياق الحديث، ولاسيما أنه صدرت فتاوى -بعد أحداث 7 أكتوبر التي قامت بها المقاومة الفلسطينية في غِلاف غزة- ترفض فكرة التمييز بين المدني والعسكري؛ ردًّا على محاولات إدانة حركة حماس بحجة ارتكاب جرائم حرب وقتل المدنيين الإسرائيليين.

ثم لم نلبث -بعد أن نشبت الحرب الإسرائيلية- أن رأينا تصريحات إسرائيلية رسمية وغير رسمية ترفض هذا التمييز فيما يخصّ سكان غزة وتحمّلهم -جميعًا- مسؤولية ما جرى، بل تحدث بعض اليهود عن رفض مثل هذه الأفكار الحديثة التي لا تتلاءم مع تصورات العهد القديم؛ لتسويغ قتل أهل غزة من دون تمييز بين صغير وكبير أو مدني وعسكري، وهو ما وقع حقيقة ولا يزال.

تثير هذه الوقائع والنقاشات أسئلة عدة، من قبيل: هل يمكن للتصورات الأخلاقية التاريخية أن تتجاوز المواضعات القانونية الحديثة التي تحكم أخلاقيات الحرب؟ وإذا كان كل طرف سيخرج على مبدأ التمييز بين المدني والعسكري الذي أقره القانون الدولي، فوَفق أي مرجعية نصوغ المعايير الحاكمة لأخلاقيات الحرب إذن؟ وهل يمكن إنكار مبدأ التمييز بين المدني والعسكري من جهة، ثم الاحتكام إليه لإدانة الطرف الآخر من جهة أخرى؟ وكيف نتصرف إزاء واقع دولي تفرض فيه موازين القوى الحسن والقبح؟ وهل من الصواب السياسي والأخلاقي استهداف جميع مواطني العدو؟

هذه أسئلة كبيرة ولا يمكن معالجتها هنا، ولكن يهمني هنا مناقشة مشكلة استدعاء فقه ما قبل الدولة الحديثة في السياق الحديث، وتحديدًا من خلال إحداث التصادم بين ثنائية المدني والعسكري، وثنائية الحربي وغير الحربي.

في البداية، لا بد من توضيح أننا أمام ثنائيتين مختلفتين وغير متطابقتين. فالثنائية الأولى؛ (المدني والعسكري) قانونية ظهرت في ظل الدولة الحديثة، والقانونُ الدولي الإنساني وميثاقُ جنيف هما المرجعان الرئيسان في هذا التمييز بين المدني والعسكري. وثمة معايير إجرائية للتمييز بين المدني والعسكري تتصل باللباس والأماكن والأنشطة.

ويتسم مفهوم "العسكريّ" بالوضوح لدى عامة الناس؛ فهو يُحيل إلى الجندي النظامي أصالة، ويلتحق به من يساعد في مهام قتالية أثناء الحرب ولو كان من المدنيين؛ لأنه يفقد -في هذه الحالة فقط- صفته المدنية. والجندي الاحتياطي مدنيّ أيضًا، ولكنه يفقد هذه الصفة عند التحاقه بالحرب فقط. فالمعيار هنا هو التلبس بعمل قتالي أو المساعدة فيه في زمن الحرب، وبهذا يختلف مفهوم "العسكري" الحديث عن مفهوم "الحربي" الفقهي الذي هو أوسع.

أما الثنائية الثانية؛ (الحربي وغير الحربي)، فهي تنتمي إلى شريعة ما قبل الدولة الحديثة، وهي جزء من رؤية العالم القديم المنقسم إلى دار إسلام ودار حرب (أو دار كفر كانت في غالب أمرها دار حرب).

فمفهوم "الحربي" ينطوي على بعض التعقيد، لأنه يقابله – في رؤية عالم ما قبل الدولة الحديثة – مفهومان؛ هما: الذمي والمعاهَد. أما الذمي فهو من يتمتع بعضوية "دار الإسلام" ودخل تحت سلطتها، وأما المعاهَد فهو عضوٌ في دولة بينها وبين "دار الإسلام" عهد (أو معاهدة). ولكنْ ثمة مفهوم ثالث يحضر هنا في مقابل مفهوم الحربي -وإن كان متداخلًا معه- وهو المستأمَن، أي من دخل -من أهل "دار الحرب"- دارَ الإسلام دخولًا مؤقتًا بأمانٍ أُعطي له من قبل ولي الأمر في دار الإسلام، أو أي جهة فيها.

من الواضح أن "الحربي" صفة تشير إلى حالة قانونية وسياسية معًا، فعلى المستوى القانوني تدور عصمة الدماء والأموال على وجود عقد قانوني؛ (عقد ذمة، أو معاهدة، أو أمان مؤقت). وعلى المستوى السياسي مدار المسألة على علاقة الحرب والسلم بين دار الإسلام ودار الحرب.

فإذا طرأ عقدٌ من العقود المشار إليها شكّل ذلك وضعًا لازمًا يُستثنى من حالة الحرب التي هي الأصل في "الحربي"؛ ولذلك سمي حربيًّا، أي نسبة إلى الحرب أو إلى أهل دار الحرب. فالحربي هو غير المسلم الذي لم يدخل في عقد الذمة، ولا يتمتع بأمان المسلمين ولا عهدهم، أي بقي على علاقة الحرب من دون إحداث عقد من العقود الثلاثة السابقة التي تُرسي حالة السلم الدائم أو المؤقت.

ومما يدل على تركيبية مفهوم الحربي أن "المستأمن" -مثلًا- هو حربيٌّ ليس له عقد الذمة ولا ثمة عهد يربط بين دولته وبين دار الإسلام، ولكن حصل على أمان مؤقت (ما يشبه التأشيرة) ينتهي بمدة محددة، ويُنذَر إذا تجاوزها، وقد ينقلب أمانُه إلى عقد ذمة بمضي المدة، فيتحول أمانه المؤقت إلى علاقة سلم دائم. بل إن المستأمَن إذا غادر إلى بلاده للتجارة أو للزيارة (لا للإقامة والاستقرار) فإن أمانه سارٍ في حقه.

ومن تطبيقات مفهوم "المستأمَن" اليوم العاملون في السفارات والسائحون والعاملون في الشركات وغيرهم، ولو كانت بلادهم من بلاد أهل الحرب؛ لأنهم دخلوا بلاد الإسلام بأمانٍ؛ فلا يجوز التعرض لهم.

يبدو الآن -بوضوح- أن ثمة اختلافًا بين الثنائيتين؛ فكل ثنائية لها منطقها الخاص، وتعمل ضمن منظومة خاصة بها، وتنتمي إلى رؤية محددة للعالم، وإلى منظومة قانونية وأخلاقية مغايرة. فالثنائية الأولى تدور حول المشاركة الفعلية في الحرب وعدمها (تسمى بالتعبير الكلاسيكي المقاتِلة) من جهة، وعلى عصمة المدني الذي ليس طرفًا في الحرب من جهة أخرى.

أما الثنائية الثانية فتتمحور حول أمرين: الأول: عضوية دار الحرب ولو لم يكن ثَم حربٌ قائمة بالفعل في تلك الحالة، والثاني: غياب أي التزام بنوع من أنواع العقود: (الذمة والعهد والأمان). ومن شأن الأمر الأول (عضوية دار الحرب) أن يجعل من كل عضو في دار الحرب حربيًّا، وبهذا تختلف ثنائية الحربي وغير الحربي عن ثنائية المدني والعسكري التي تبدو أخصّ هنا.

ولكن استباحة كل عضو في دار الحرب مُشكلٌ؛ لأن الفقهاء اتفقوا على عصمة فئات من مواطني دار الحرب، وهذا أمر يضاف إلى الأوصاف أو العقود الثلاثة السابقة: (الذمة والعهد والأمان). من تلك الفئات: النساء والصبيان؛ إذا لم يقاتلوا، فهؤلاء تثبت لهم العصمة ويحرم قتلهم في الحرب بإجماع العلماء، ولكن إن قاتلت النساء ذهب جماهير العلماء إلى أن من تقاتل منهنّ تُقتل؛ فدارت العلة هنا على القتال الفعلي (أي تحول المرأة إلى "عسكري" بالمفهوم الحديث).

بل ثمة فئات أخرى من الحربيين وقع الخلاف فيها بين الفقهاء. من ذلك -مثلًا- أن فقهاء الحنفية لا يُجيزون قتل الشيخ الفاني، والمُقعد، واليابس الشق، والأعمى، ومقطوع اليد والرجل من خِلاف، ومقطوع اليد اليمنى، والمعتوه، والراهب في صومعته، والسائح في الجبال الذي لا يخالط الناس، ومَن في دار أو كنيسة ترهبوا وأُطبق عليهم الباب. والمشهور عن فقهاء المالكية عدم جواز قتل الأجراء والحرّاثين وأرباب الصنائع. يوضح هذا أمرين:

الأول: أنه ليس كل حربيّ يجوز قتله في الحرب عند الفقهاء؛ فثمة اعتبارات ومعايير تجب مراعاتها.

والثاني: أنه ليس كل مدني (بالمصطلح الحديث) هو حربي (بالاصطلاح الفقهي) مستباح الدم في الحرب.

 

فالحربي مفهوم وصفي؛ لا يكفي -بمجرده- لاستباحة دم صاحبه عند الفقهاء، بل لا بد هنا من تحقق معيارَين:

الأول: أن ينتفي أي التزام قانوني أو سياسي، فقد قلنا؛ إن الحربي هو من لم يكن من أهل الذمة، ولم ينخرط في عهد أو أمان.

الثاني: أن هذا الحربي يجب أن يكون "من أهل القتال" حقيقةً أو معنًى، فكل من لم يكن من أهل القتال لا يحلّ قتله في الحرب؛ إلا إذا قاتل حقيقة أو معنًى (بالرأي والتحريض). ولأجل هذه العلة استثنى فقهاء ما قبل الدولة الحديثة الفئات المذكورة سابقًا؛ (كالنساء والأطفال)؛ لأنهم لم يكونوا في ذلك الزمن من أهل القتال؛ نظرًا لترتيبات ما قبل الدولة الحديثة وطبيعة القتال وأدواته وتنظيماته. وكذلك استُثني الشيخ الفاني؛ لأنه لا بقية فيه للقتال، كما استُثني الراهب أو الراهبة؛ لأنهما منعزلان حتى إنهما لا يُؤسران ولا يُسْتَرَقّان في مذهب مالك.

 

توضح هذه الأمور جميعًا وجه الإشكال لدى بعض المشتغلين بالفتوى من المعاصرين ممن خرجوا – بعد أحداث 7 أكتوبر – وقالوا: إنه لا يوجد مدني في إسرائيل؛ فهذا خلط بين المفاهيم يتضح من خلال أمور:

الأول: أن المدني مفهوم قانوني حديث قائم وثابت في العرف الدولي، وينطبق على أهل غزة، كما ينطبق على كل الإسرائيليين الذين لم ينخرطوا في عمل قتالي أو تحريضي، ولم يساعدوا فيه. ولا يجوز خلط هذا المفهوم بمفهوم الحربي.

الثاني: أن تنزيل المصطلحات الفقهية التاريخية على عموم الإسرائيليين محل إشكال من الناحية الفقهية؛ فليس كل الإسرائيليين حربيين مستباحين وفق المنظور الفقهي الكلاسيكي، وربما يجادل هنا بعض العلماء -ممن يتمسكون بحَرفية الموروث الفقهي على استقامته- بأن ثمة عقودًا أُبرمها أولياء الأمور مع الإسرائيليين، من شأنها أن تؤثر في توصيف الإسرائيليين أنفسهم، بحيث قد ينتقلون من وصف الحربي إلى وصف آخر من الأوصاف المقابلة له كالمعاهد والمستأمن؟ وهذا منظور مشكل مثلما أن منظور هدر التمييز بين المدني والعسكري كلية مشكل بالقدر نفسه؛ إذ إن استهداف الأطفال في الحرب -مثلًا- لا يجوز إجماعًا عند الفقهاء فكيف يتم هدر تلك الثنائية كلية!

 

إن استثمار الموروث الفقهي في عالم اليوم، قد يُلزم مستثمريه بإلزامات عادة ما يتجاهلونها؛ رغم أن هذه الإلزامات جزء من منظومة شريعة ما قبل الدولة الحديثة؛ يتضح من خلال أمور:

الأول: غياب النظر المنظومي. فتنزيل الموروث في السياق الحديث، على استقامته، سيقود إلى باقي منظومة ما قبل الدولة الحديثة كالاسترقاق والأسْر ونبذ العهد (لمن قام بينهم العهد) من قِبَل الإمام بشروطه المذكورة في الفقه، إلى غير ذلك من تفاصيل المنظومة التي لا يتنبه هؤلاء المستثمرون إلى إشكالاتها وحجم الورطة التي يمكن أن يقعوا فيها فيما لو أُلزموا بقوانين فقه ما قبل الدولة؛ بعيدًا عن اجتزائيتهم المريحة التي يقومون بها؛ لخدمة رؤية قاصرة لا تتسق مع ما أسميه "نظام الفقه"، ولا تتسق مع متغيرات الدولة الحديثة: مفاهيمَ وقوانينَ، ولكنها تقدم رؤية هجينة لا تستقيم وفق أي منظومة!.

الثاني: أن هذه المسائل هي سياسية مصلحية في المنظور الفقهي، وإن ورد في بعضها نصوص حديثية، فهي تخضع لحسابات المصالح العامة وفق تقديرات الإمام، وفق منظور ما قبل الدولة الحديثة. فقد يمنح ولي الأمر الحماية لفئات من الحربيين، وقد يُصدر أمرًا إلى الجيش بألا يتعرضوا بالقتل لأشخاص معينين بذواتهم أو بأوصاف محددة تميزهم من غيرهم؛ بناءً على مصلحة أو تمسكًا باتفاق سابق.

وهنا نجد أنفسنا أمام تطبيق حديث لهذا التصور الكلاسيكي وهو الاتفاقات الدولية التي وقعت عليها دول اليوم؛ فإذا كان الفقهاء الكلاسيكيون قد أجازوا إعطاء الأمان للحربي من قبل بعض الأفراد، فكيف يكون الوضع في ظل عالم اليوم شديد التعقيد الذي تربطه اتفاقات ومنظومات قانونية وسياسية معقدة؟

الثالث: عدم رعاية التحولات السياسية والعسكرية في الانتقال مما قبل الدولة الحديثة إلى الدولة الحديثة، وتطور أدوات الحرب وتقنياتها، الأمر الذي سيترك أثرًا بالغًا على أهمية التمييز بين الأفراد في الحرب، ومعايير ذلك التمييز أيضًا من الناحية الإجرائية، فضلًا عن تبدلات المفاهيم الحديثة بالمقارنة مع مفاهيم ما قبل الدولة الحديثة، أي أن المعيار الكلاسيكي لـ "مِن أهل القتال" سيختلف اليوم بالنظر إلى تشكيل الجيش النظامي، ومفهوم الحرب وأدواتها العسكرية المدمرة.

وعدم رعاية هذه المتغيرات قد يقود إلى متابعات قانونية دولية بارتكاب جرائم حرب، وإن كانت إجراءات التقاضي في ذلك مسألة تخضع لموازين القوى وسياسات الدول الكبرى، ولكن ذلك لا يخلّ بالمبدأ نفسه.

____________________

المصدر: موقع الجزيرة نت، 12 يناير 2024، https://2u.pw/Y5z2AmF

قال خبيران قانونيان، إن حق الدفاع عن النفس لا ينطبق على إسرائيل في حربها على قطاع غزة، وإن التصريحات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية التي تزعم هذا الحق "ليست قانونية، بل سياسية منحازة لإسرائيل". وشدد الخبيران، في أحاديث منفصلة لوكالة الأناضول، على أن الأعمال العسكرية الإسرائيلية في غزة تصل إلى مستوى "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية".

وخلال زيارته إلى إسرائيل في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لم يكتف وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، بالقول إنه يدعم "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، بل وأكد بالقول: "بل ولزامًا عليها ذلك، وندعمها بقوة". وشدد بلينكن، في تصريح صحفي، على "ضرورة تمكين الجيش الإسرائيلي من هزيمة (حركة) حماس في غزة".  كما أعلن زعماء الاتحاد الأوروبي (27 دولة) عبر بيان في 15 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، "دعمهم لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، بما يتماشى مع القانون الإنساني والدولي".

 

أراضٍ تحت الاحتلال

مدير مؤسسة الحق (غير حكومية) شعوان جبارين قال للأناضول إن "العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة تتعارض وتتناقض مع القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة في الدفاع عن النفس". وأوضح أن "حق الدفاع عن النفس ينطبق على دولة عندما تهاجمها أخرى ويتعرض أمنها القومي ووجودها للخطر، وحينها تُعلم هذه الدولة الأمم المتحدة أولا ثم تستخدم القوة للدفاع عن نفسها، وهذا لا ينطبق على الحالة الجارية هنا (غزة)". جبارين تابع أن "فلسطين وحماس ليست دولة، وهي أرض محتلة وغزة والضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي، وسابقا نوقش رأي استشاري فيما يخص بناء إسرائيل لجدار الفصل (بالضفة الغربية) في عام 2004 بحجة الدفاع عن النفس، وخلصت (محكمة العدل الدولية) إلى أنه: ليس من الحق أن تتحجج إسرائيل بأن لها الحق في الدفاع الشرعي عن النفس بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة". وشدد على أن التصريحات الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية بشأن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها "تخالف القانون الدولي، وهي ليست تصريحات قانونية، بل سياسية منحازة لإسرائيل". "إن لم تمارس إسرائيل الإبادة"، بحسب جبارين، "فهي ذاهبة للإبادة، ولذلك عملياتها فيها كل أركان الإبادة في ظل تصريحات أعلى الهرم في إسرائيل من سياسيين وعسكريين، والتي تؤكد نيتهم قتل جزء أو كل من الشعب الفلسطيني في غزة". وأردف أن "الممارسة في أرض المعركة تترجم هذه التوجهات من قتل وتدمير للمدنيين ودون أي ضرورة عسكرية، ما يوصلنا إلى نقطة إبادة جماعية في قطاع غزة". وعادة ما تنفي إسرائيل ارتكابها جرائم في غزة، وتزعم أنها تدافع عن نفسها، بعد أن أطلقت حركة "حماس"، في 7 أكتوبر، هجوم "طوفان الأقصى"؛ "ردا على الاعتداءات الإسرائيلية اليومية بحق الشعب الفلسطيني ومقدساته، ولاسيما المسجد الأقصى".

 

لا مبرر لارتكاب الجرائم

أما أستاذ القانون والعلاقات الدولية في الجامعة العربية الأمريكية بمدينة جنين في الضفة رائد أبو بدوية فقال إن "حق الدفاع عن النفس مكفول، ولو سلمنا جدلًا بأن لإسرائيل هذا الحق، فإنه لا يبرر ارتكاب الجرائم". أبو بدوية أضاف للأناضول أنه "في حالة الدفاع عن النفس في الأصل لا يجوز لك انتهاك قواعد القانون الدولي ولا يجوز أن تستهدف المدنيين، وأي جرم غير مسموح تحت تبرير الدفاع عن النفس". وتابع: "ما تستهدفه إسرائيل في غزة ليست أهداف عسكرية، واضح مما نشاهده وما يُرصد أن طبيعة الأهداف مساكن مدنية ومؤسسات خدمة مدنية ومستشفيات، وكل ما سبق يعتبر جريمة حرب". ومشددا على وجود "جريمة إبادة جماعية وجريمة ضد الإنسانية"، لفت أبو بدوية إلى "ما تنفذه إسرائيل اليوم من استهداف للمدنيين وترحيلهم وتجويعهم ومنع الاحتياجات الرئيسية".

ومنذ اندلاع الحرب، تقطع إسرائيل إمدادات الماء والغذاء والأدوية والكهرباء والوقود عن سكان غزة، وهم نحو 2.3 مليون فلسطيني يعانون بالأساس من أوضاع متدهورة للغاية؛ جراء حصار إسرائيلي متواصل منذ عام 2006. واستشهد أبو بدوية بميثاق روما المؤسس لمحكمة الجنايات الدولية الذي يصنف تلك الأعمال "جريمة حرب". وختم بأن "الدفاع عن النفس مكفول، ولكن ضمن ضوابط وليس حق مطلق، وما تنفذه إسرائيل في معظمه تجاوز للقانون، وهي جرائم دولية".

______________

قيس أبو سمرة، قانونيان: "حق الدفاع عن النفس" لا ينطبق على إسرائيل في غزة، وكالة الأناضول، 10 نوفمبر 2023، https://2u.pw/GA0OsxN.

الصفحة 1 من 2

Post Gallery

الاجتهاد والإرشاد والاتحاد في فكر الشيخ محمد رشيد رضا وحركته الإصلاحية (1-2)*

الجمعية الدولية لعلماء الإبادة: سياسات إسرائيل في غزة ترقى إلى الإبادة الجماعية

أثر الفقه الإسلامي في القانون المدني الفرنسي*

قوانين الشريعة الإسلامية على المذاهب الأربعة: جهود لجنة تقنين الشريعة الإسلامية بمجلس الشعب المصري

المجاعة في غزة… إعلان أممي قد يجرّ قادة الاحتلال إلى المحاكمة

المرأة والتطور السياسي في الوطن العربي بين الواقع الحاضر وآفاق المستقبل*

حالة الاستثناء: الإنسان الحرام

خمسون مفكرًا أساسيًا معاصرًا: من البنيوية إلى ما بعد الحداثة*

الفقه الإسلامي: المصدر الرئيسي للتشريع*